فصل: الضرب الثاني الايجاز بالقصر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر **


 الضرب الاول الايجاز بالتقدير

ولنورد الآن الضرب الأول الذي هو الإيجاز بالتقدير فمما جاء منه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره‏.‏ ثم السبيل يسره‏.‏ ثم أماته فأقبره‏.‏ ثم إذا شاء أنشره‏.‏ كلا لما يقض ما أمره ‏"‏ فقوله ‏"‏ قتل الإنسان ‏"‏ دعاء عليه‏.‏

وقوله ‏"‏ ما أكفره ‏"‏ تعجب منإفراطه في كفران نعمة الله عليه ولا نرى أسلوبا أغلظ من هذا الدعاء والتعجب ولا أخشن مسا ولا أدل على سخط مع تقارب طرفيه ولا أجمع للائمة على قصر منته ثم إنه أخذ في صفة حاله من ابتداء حدوثه إلى منتهى زمانه فقال‏:‏ ‏"‏ من أي شيء خلقه ‏"‏ ثم بين الشيء الذي خلق منه بقوله‏:‏ ‏"‏ من نطفة خلقه فقدره ‏"‏ أي‏:‏ هيأه لما يصلح له ‏"‏ ثم السبيل يسره ‏"‏ أي‏:‏ سهل سبيله وهو مخرجه من بطن أمه أو السبيل الذي يختار سلوكه من طريقي الخير والشر والأول أولى لأنه تال لخلقته وتقديره ثم بعد ذلك يكون تيسير سبيله لما يختاره من طريقي الخير والشر ‏"‏ ثم أماته فأقبره ‏"‏ أي‏:‏ جعله ذا قبر يوارى فيه ‏"‏ ثم إذا شاء أنشره ‏"‏ أي‏:‏ أحياه ‏"‏ كلا ‏"‏ ردع للإنسان عما هو عليه ‏"‏ لما يقض ما أمره ‏"‏ أي‏:‏ لم يقض مع تطاول زمانه ما أمر الله به يعني أن إنسانا لم يخل من

تقصير قط ألا ترى إلى هذا الكلام الذي لو أردت أن تحذف منه كلمة واحدة لما قدرت على

ذلك لأنك كنت تذهب بجزء من معناه والإيجاز هو ألا يمكنك أن تسقط شيئا من ألفاظه‏.‏

والآيات الواردة من هذا الضرب كثيرة كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما

سلف ‏"‏ فقوله ‏"‏ فلم ما سلف ‏"‏ من جوامع الكلم ومعناه أن خطاياه الماضية قد غفرت له وتاب

الله عليه فيها إلا أن قوله‏:‏ ‏"‏ فله ما سلف ‏"‏ أبلغ‏:‏ أي أن السالف من ذنوبه لا يكون عليه إنما هو له

وكذلك ورد قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ من كفر فعليه كفره ‏"‏ فعليه كفره كلمة جامعة تغني عن ذكر ضروب من العذاب لأن من أحاط به كفره فقد أحاطت به كل خطيئة‏.‏

وعلى نحو من هذا جاء قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ‏"‏ فهذا الآية من جوامع الآيات الواردة في القرآن الكريم وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها على الوليد بن المغيرة فقال له‏:‏ يا ابن أخي أعد فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم قراءتها عليه فقال له‏:‏ إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة

وإن أعلاه مثمر وإن أسفله لمغدق وما هو بقول البشر‏.‏

ومن هذا النحو قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من

حبل الوريد‏.‏ إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد‏.‏

ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد‏.‏

ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد‏.‏ وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد‏.‏ لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ‏"‏ وهذه الآيات من قوارع القرآن العجيبة التي دلت على تخويف وإرهاب

ترق القلوب وتقشعر منه الجلود وهي مشتملة مع قصرها على حال الإنسان منذ خلقه إلى حين

حشره وحشر غيره من الناس وتصوير ذلك الأمر الفظيع في أسهل لفظ وأقربه وما مررت عليها ألا جدت لي موعظة وأحدثت عندي إيقاظا‏.‏

ومن هذا الضرب ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه لأبي سلمة عند موته

فقال‏:‏ ‏"‏ اللهم ارفع درجته في المهتدين واخلفه في عقبه في الغابرين لنا وله يا رب العالمين ‏"‏ وهذا دعاء جامع بين الإيجاز وبين مناسبة الحال التي وقع فيها فأوله مفتتح بالمهم الذي يفتقر إليه المدعو له تلك الحال وهو رفع درجته في الآخرة وثانيه مردف بالمهم الذي يؤثر المدعو له من صلاح حاله عقبه من بعده في الدنيا وثالثه مختتم بالجمع بين الداعي والمدعو له وهذا من

الإيجاز البليغ الذي هو طباق ما قصد له وكلام النبي صلى الله عليه وسلم هكذا كما

وكذلك ورد قوله ‏)‏يوم بدر فإنه قال‏:‏ ‏"‏ هذا يوم له ما بعده ‏"‏ وه شبيه بقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فله ما

سلف ‏"‏

ولما جرح عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجراحة التي مات بها اجتمع إليه الناس فجاءه

شاب من الأنصار وقال‏:‏ أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله وقدم في

الإعلام ما علمت ووليت فعدلت ثم شهادة‏.‏

وهذا كلام سديد قد حوى المعنى المقصود وأتى به في أوجز لفظ وأحسنه ومع ما فيه من

الإيجاز فإنه مستغرب وسبب استغرابه أنه جعل المساءة بشرى وأخرجها مخرج المسرة

وتلطف في ذلك فأبلغ ولو أراد الكاتب البليغ والخطيب المصقع أن يأتي بذلك على هذا الوجه

لأعوزه‏.‏

ومن هذا النمط ما كتبه طاهر بن الحسين إلى المأمون عند لقائه عيسى بن ماهان وهزمه إياه

وقتله فكتب إليه‏:‏ كتابي إلى أمير المؤمنين ورأس عيسى بن ماهان بين يدي وعسكره مصرف

تحت أمري والسلام‏.‏

وهذا من الكتب المختصرة التي حوت الغرض المطول وما يكتب في هذا المقام مثله‏.‏

ولما أرسل المهلب بن صفرة أبا الحسن المدائني إلى الحجاج بن يوسف يخبره أخبار الأزارقة

كلمه كلاما موجزا كالذي نحن بصدد ذكره ههنا و ذاك أن الحجاج سأله فقال‏:‏ كيف تركت

المهلب فقال‏:‏ ما أدرك ما أمل وأمن مما خاف فقال‏:‏ كيف هو لجنده قال‏:‏ والد رءوف

قال‏:‏ كيف جنده له قال‏:‏ أولاد بررة قال‏:‏ كيف رضاهم عنه قال‏:‏ وسعهم بفضله وإغناهم

بعدله قال كيف تصنعون إذا لقيتم عدوا قال‏:‏ نلقاهم بجدنا ويلقوننا بجدهم قال‏:‏ كذلك الجد

إذا لقي الجد قال‏:‏ فأخبرني عن المهلب قال‏:‏ هم أحلاس القتال بالليل حماة السرج بالنهار قال‏:‏

أيهم أفضل قال‏:‏ هم كحلقة مضروبة لا يعرف طرفاها فقال الحجاج لجلسائه‏:‏ هذا والله هو

الكلام الفصل الذي ليس بمصنوع‏.‏

وقد ورد في الأخبار النبوية من هذا الضرب شيء كثير وسأورد منه أمثلة يسيرة‏.‏

فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات ‏"‏ وهذا الحديث من أجمع الأحاديث للمعاني الكثيرة وذاك أنه يشتمل على جل الأحكام الشرعية فإن الحلال والحرام إما أن يكون الحكم فيهما بينا لا خلاف فيه بين العلماء وإما أن يكون خافيا

يتجاذبه وجوه التأويلات فكل منهم يذهب فيه مذهبا‏.‏

وكذلك جاء قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ‏"‏ فإن هذا

الحديث أيضاً من جوامع الأحاديث للأحكام الشرعية‏.‏

ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ المضعف أمير الركب ‏"‏ وقد ورد آخر هذا الحديث بلفظ

آخر فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ سيروا بسير أضعفكم ‏"‏ إلا أن الأول أحسن لأنه أبلغ معنى فإن الأمير واجب الحكم فهو يتبع وإذا كان المضعف أمير الركب كانوا مؤتمرين له في سيرهم ونزولهم وهذا المعنى لا يوجد في قوله ‏"‏ سيروا بسير أضعفكم‏.‏

وأحسن من هذا كله ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في حديث مطول يتضمن سؤال جبريل

عليه السلام فقال من جملته ‏"‏ ما الإحسان قال‏:‏ أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه

يراك ‏"‏ فقوله‏:‏ ‏"‏ تعبد الله كأنك تراه ‏"‏ من جوامع الكلم لأنه ينوب مناب كلام كثير كأنه قال‏:‏ تعبد

الله مخلصا في نيتك واقفا عند أدب الطاعة من الخضوع والخشوع آخذا أهبة الحذر وأشباه

ذلك لأن العبد إذا خدم مولاه ناظرا إليه استقصى في آداب الخدمة بكل ما يجد إليه السبيل وما

ينتهي إليه الطوق‏.‏

ومما أطربني من ذلك حديث الحديبية وهو أنه جاء بديل بن ورقاء إلى النبي صلى الله عليه

وسلم فقال له‏:‏ ‏"‏ إني تركت كعب بن لؤي بن عامر بن لؤي معهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك

وصادوك عن البيت فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن قريشا قد نهكتهم الحرب فإن

شاءوا ماددناهم مدة ويدعوا بيني وبين الناس فإن أظهر عليهم وأحبوا أن يدخلوا فيما دخل فيه

الناس وإلا كانوا قد جموا وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد

سالفتي هذه ولينفذن الله أمره ‏"‏ وهذا الحديث من جوامع الكلم وهو من الفصاحة والبلاغة على

غاية لا ينتهي إليها وصف الواصف‏.‏

وأما ما ورد من ذلك شعرا فقول النابغة‏:‏

وإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

وتخصيصه الليل دون النهار مما يسأل عنه‏.‏

وكذلك قوله‏:‏

ولست بمستبق أخا لا تلمه على شعث أي الرجال المهذب

وعلى هذا الأسلوب ورد قول الأعشى في اعتذاره إلى أوس بن لام عن هجائه إياه‏:‏

وإني على ما كان مني لنادم وإني إلى أوس بن لام لتائب

وإني إلى أوس ليقبل عذرتي ويصفح عني ما حييت لراغب

فهب لي حياتي فالحياة لقائم بشكرك فيها خير ما أنت واهب

سأمحو بمدح فيك إذ أنا صادق كتاب هجاء سار إذ أنا كاذب

وهذا من المعاني الشريفة في الألفاظ الخفيفة وهو من طنانات الأعشى المشهورة‏.‏

صبحناهم الشعث الجياد كأنها قطا هيجته يوم ريح أجادله

إلى كل حي قد خطبنا بناتهم بأرعن جرار كثير صواهله

إذا ما التقينا انكحتنا رماحنا من القوم أبكارا كراما عقائله

وإنا لمناعون تحت لوائنا حمانا إذا ما عاد بالسيف حامله

وهذا من محاسن ما يجيء في هذا الباب‏.‏

ومما يجري هذا المجرى قول جرير‏:‏

تمنى رجال من تميم منيتي وما ذاد عن أحسابهم ذائد مثلي

فلو شاء قومي كان حلمي فيهم وكان على جهال أعدائهم جهلي

وكذلك ورد قوله متغزلا وهو من محاسن أقواله‏:‏

سرت الهموم فبتن غير نيام وأخو الهموم يروم كل مرام

ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأقوام

ولقد أراك وأنت جامعة الهوى أثني بعهدك خير دار مقام

طرقتك صائدة القلوب فليس ذا حين الزيارة فارجعي بسلام

ولقد أراني والجديد إلى بلى في موكب طرف الحديث كرام

لولا مراقبة العيون أريتنا حدق المها وسوالف الآرام

وإذا صرفن عيونهن بنظرة نفذت نوافذها بغير سهام

هل تنفعنك إن قتلن مرقشا أو ما فعلن بعروة بن حزام

وحلاوة هذا الكلام أحسن من إيجازه ولقد أعوز غيره أن يأتي بمثله حتى أقر بإعوازه‏.‏

ومن باب الإيجاز الذي يسمى التقدير قول علي بن جبلة‏:‏

وما لأمريء حاولته عنك مهرب ولو حملته في السماء المطالع

بلى هارب ما يهتدي لمكانه ظلام ولا ضوء من الصبح ساطع

فهذا هو الكلام الذي ألفاظه وفاق معانيه فإنه قد اشتمل على مدح رجل بشمول ملكه

وعموم سلطانه وأنه لا مهرب عنه لمن يحاوله وإن صعد السماء ثم ذكر جميع المهارب في

المشارق والمغارب وأشار إلى أنه يبلغ الظلام والضياء وذلك مما لم تزد عبارته على المعنى

المندرج تحته ولا قصرت عنه‏.‏

ومن هذا الضرب قول أبي النواس وهو من نادر ما يأتي في هذا الموضع‏:‏

ودار ندامى عطلوها وأدلجوا بها أثر منهم جديد ودارس

حبست بها صحبي فجددت عهدهم وإني على أمثال تلك لحابس

تدار علينا الراح في عسجدية حبتها بأنواع التصاوير فارس

قراراتها كسرى وفي جنباتها مها تدريها بالقسي الفوارس

فللراح ما زرت عليه جيوبها وللماء ما دارت عليه القلانس

ومما انتهى إلي من أخبار ابن المزرع قال‏:‏ سمعت الجاحظ يقول‏:‏ لا أعرف شعرا يفضل هذه

الأبيات التي لأبي نواس ولقد أنشدتها أبا شعيب القلاق فقال‏:‏ والله يا أبا عثمان إن هذا لهو

الشعر ولو نقر لطن فقلت له‏:‏ ويحك‏!‏ ما تفارق عمل الجرار والخزف ولعمري إن الجاحظ

عرف فوصف وخبر فشكر والذي ذكره هو الحق‏.‏

وعلى هذا الأسلوب جاء قول أبي تمام‏:‏

إن القوافي والمساعي لم تزل مثل النظام إذا أصاب فريدا

هي جوهر نثر فإن ألفته بالشعر صار قلائدا وعقودا

في كل معترك وكل مقامة يأخذن منه ذمة وعهودا

فإذا القصائد لم تكن خفراءها لم ترض منها مشهدا مشهودا

من أجل ذلك كانت العرب الألى يدعون هذا سوددا محدودا

  الضرب الثاني الايجاز بالقصر

وأما الضرب الثاني‏:‏ وهو الإيجاز بالقصر فإن القرآن الكريم ملآن منه وقد تقدم القول أنه

قسمان‏:‏

القسم الاول

مايدل على محتملات متعددة

فمن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ لقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا

لا تخاف دركا ولا تخشى‏.‏

فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأضل فرعون

قومه وما هدى ‏"‏ فقوله ‏"‏ فغشيهم من اليم ما غشيهم ‏"‏ من جوامع الكلم التي يستدل على قلتها

بالمعاني الكثيرة‏:‏ أي غشيهم من الأمور الهائلة والخطوب الفادحة ما لا يعلم كنهه إلا الله ولا يحيط

به غيره‏.‏

ومن هذا الضرب قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ‏"‏ فجمع في الآية جميع

مكارم الأخلاق لأن في الأمر بالمعروف صلة الرحم ومنع اللسان عن الغيبة وعن الكذب وغض

وقال بعض الأعراب في دعائه‏:‏ اللهم هب لي حقك وأرض عني خلقك فقال النبي صلى الله

عليه وسلم ‏"‏ هذا هو البلاغة ‏"‏

ومن ذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ أولئك لهم الأمن ‏"‏ فإنه دخل تحت الأمن جميع المحبوبات وذلك أنه نفى

به أن يخافوا شيئا من الفقر والموت وزوال النعمة ونزول النقمة وغير ذلك من أصناف المكاره‏.‏

وأشباه هذا في القرآن الكريم كثيرة فهو يكثر في بعض الصور ويقل في بعض قال النبي صلى

الله عليه وسلم ‏"‏ من شاء يرتع في الرياض الأنائق فعليه بآل حم ‏"‏

ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الخراج ضمان ‏"‏ وذاك أن رجلا اشترى عبدا فأقام

عنده مدة ثم وجد به عيبا فخاصم البائع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرده عليه فقال‏:‏ يا

رسول الله إنه استغل غلامي فقال‏:‏ ‏"‏ الخراج بالضمان ‏"‏ ومعنى قوله ‏"‏ الخراج بالضمان ‏"‏ أن الرجل إذا

اشترى عبدا فاستغله ثم وجد به عيبا دلسه عليه البائع فله أن يرده ويسترجع الثمن جميعه ولو

مات العبد أو أبق أو سرقه سارق كان في مال المشتري وضمانه عليه وإذا كان ضمانه عليه

فخراجه له‏:‏ أي له ما تحصل من أجرة عمله‏.‏

وأما ما ورد شعرا فقول السموءل بن عاديا الغساني من جملة أبياته اللامية المشهورة وذلك

قوله منها‏:‏

فإن هذا البيت قد اشتمل على مكارم الأخلاق جميعها من سماحة وشجاعة وعفة

وتواضع وحلم وصبر وغير ذلك فإن هذه الأخلاق كلها من ضيم النفس لأنها تجد بحملها

ضيما‏:‏ أي مشقة وعناء‏.‏

وقد تقدم القول أن الإيجاز بالقصر يكون فيما تضمن لفظه محتملات كثيرة وهذا البيت من

ذلك القبيل ولا أعلم أن شاعرا قديما ولا حديثا أتى بمثله وقد أخذه أبو تمام فأحسن في أخذه

وهو‏:‏

وظلمت نفسك طالباً إنصافها فعجبت من مظلومة لم تظلم

ففاز في بيته هذا بالمقابلة بين الضدين في الظلم والإنصاف ثم قال‏:‏ ‏"‏ فعجبت من مظلومة لم

تظلم ‏"‏ وهذا أحسن من الأول ومعنى قوله‏:‏ ‏"‏ ظلمت نفسي طالبا إنصافها ‏"‏ أي‏:‏ أنك أكرهتها على

مشاق الأمور وإذا فعلت ذلك فقد ظلمتها ثم إنك مع ظلمك إياها قد أنصفتها لأنك جلبت

إليها أشياء حسنة تكسبها ذكرا جميلا ومجدا مؤثلا فأنت منصف لها في صورة ظالم وكذلك

قوله‏:‏ ‏"‏ فعجبت من مظلومة لم تظلم ‏"‏ أي أنك ظلمتها وما ظلمتها لأن ظلمك إياها أدى إلى ما هو جميل حسن‏.‏

وهذا القدر في الأمثلة كاف في هذا الباب‏.‏

ما لا يمكن التعبير عن ألفاظه بألفاظ أخرى

القسم الآخر من الضرب الثاني في الإيجاز بالقصر وهو الذي لا يمكن التعبير عن ألفاظه بألفاظ أخرى مثلها وفي عدتها وهو أعلى طبقات الإيجاز مكانا وأعوزها إمكانا وإذا وجد في كلام بعض البلغاء فإنما يوجد شاذا نادرا‏.‏

فمن ذلك ما ورد في القرآن الكريم كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولكم في القصاص حياة ‏"‏ فإنه قوله

تعالى‏:‏ ‏"‏ القصاص حياة ‏"‏ لا يمكن التعبير عنه إلا بألفاظ كثيرة لأن معناه أنه إذا قتل القاتل امتنع غيره عن القتل فأوجب ذلك حياة للناس ولا يلتفت إلى ما ورد عن العرب من قولهم‏:‏ القتل أنفى للقتل فإن من لا يعلم يظن أن هذا على وزن الآية وليس كذلك بل بينهما فرق من ثلاثة أوجه‏:‏ الأول‏:‏ أن ‏"‏ القصاص حياة ‏"‏ لفظتان و ‏"‏ القتل أنفى للقتل ‏"‏ ثلاثة ألفاظ الوجه الثاني‏:‏ أن في قولهم ‏"‏ القتل أنفى للقتل ‏"‏ تكريرا ليس في الآية الثالث‏:‏ أنه ليس كل قتل نافيا للقتل إلا إذا كان على حكم القصاص‏.‏

وقد صاغ أبو تمام هذا الوارد عن العرب في بيت من شعره فقال‏:‏

وأخافكم كي تغمدوا أسيافكم إن الدم المعتر يحرسه الدم

ويروى عن معن بن زائدة أنه سأله أبو جعفر المنصور فقال له‏:‏ أيما أحب إليك دولتنا أو دولة بني أمية فقال‏:‏ ذاك إليك فقوله ‏"‏ ذاك إليك ‏"‏ من الإيجاز بالقصر الذي لا يمكن التعبير عنه إلا بألفاظ كثيرة لأن معنى قوله ‏"‏ ذاك إليك ‏"‏ وهو لفظتان أنه زاد إحسانك على إحسان بني أمية فأنتم أحب إلي وهذه عشرة ألفاظ

فإن قيل‏:‏ كيف لا يمكن التعبير عن ألفاظ أخرى مثلها وفي عدتها وفي المترادف من الألفاظ ما

هو دليل على خلاف ذلك فإنه إذا قيل راح ثم قيل مدامة أو سلافة كان ذلك سواء وقامت

هذه اللفظة مقام هذه اللفظة‏.‏

قلت في الجواب‏:‏ ليس كل الألفاظ المترادفة يقوم بعضها مقام بعض ألا ترى أن لفظة ‏"‏ القصاص ‏"‏

لا يمكن التعبير عنها بما يقوم مقامها ولما عبر عنها بالقتل فيقول العرب ‏"‏ القتل أنفى للقتل ‏"‏ ظهر الفرق بين ذلك وبين الآية في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولكم في القصاص حياة ‏"‏ فالذي أردته أنا إنما هو الكلام الذي لا يمكن التعبير عن ألفاظه بألفاظ أخرى مثلها وفي عدتها فإن كان كذلك وإلا فليس داخلا في هذا القسم المشار إليه‏.‏

  النوع السادس عشر

هذا النوع من الكلام أنعمت نظري فيه وفي التكرير وفي التطويل فملكتني حيرة الشبه بينها

طويلا وكنت في ذلك كعمر بن الخطاب رضي الله عنه في الكلالة حيث قال‏:‏ قد أعياني أمر

الكلالة وكنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها كثيراً حتى ضرب في صدري

وقال‏:‏ ‏"‏ ألا يكفيك آية الصيف ‏"‏‏.‏

وبعد أن أنعمت نظري في هذا النوع الذي هو الإطناب وجدت ضربا من ضروب التأكيد التي

يؤتى بها في الكلام قصداً للمبالغة ألا ترى أنه ضرب مفرد من بينها برأسه لا يشاركه فيه غيره لأن من التأكيد ما يتعلق بالتقديم والتأخير كتقديم المفعول وبالاعتراض كالاعتراض بين القسم

وجوابه وبين المعطوف والمعطوف عليه وأشباه ذلك وسيأتي الكلام عليه في بابه وهذا الضرب

الذي هو الإطناب ليس كذلك‏.‏

ورأيت علماء البيان قد اختلفوا فيه فمنهم من ألحقه بالتطويل الذي هو ضد الإيجاز وهو

عنده قسم غيره فأخطأ من حيث لا يدري كأبي هلال العسكري والغانمي حتى إنه قال‏:‏ إن

كتب الفتوح وما جرى مجراها مما يقرأ على عوام الناس ينبغي أن تكون مطولة مطنبا فيها وهذا القول فاسد لأنه إن عنى بذلك أنها تكون ذات معان متعددة قد استقصى فيها شرح تلك

الحادثة من فتح أو غيره فذلك مسلم وإن عني بذلك أنها تكون مكررة المعاني مطولة الألفاظ

قصداً لإفهام العامة فهذا غير مسلم وهو مما لا يذهب إليه من عنده أدنى معرفة بعلم الفصاحة

والبلاغة ويكفي في بطلانه كتاب الله تعالى فإنه لم يجعل لخواص الناس فقط وإنما جعل لعوامهم

وخواصهم وأكثره لا بل جميعه مفهوم الألفاظ للعوام إلا كلمات معدودة وهي التي تسمى غريب القرآن وقد تقدم الكلام على ذلك في المقالة الأولى المختصة بالألفاظ وعلى هذا فينبغي أن تكون الكتب جميعها مما يقرأ على عوام الناس وخواصهم ذات ألفاظ سهلة مفهومة وكذلك

الأشعار والخطب ومن ذهب إلى غير ذلك فإنه بنجوة عن هذا الفن وعلى هذا فإن الإطناب

لا يختص به عوام الناس وإنما هو للخواص كما هو للعوام وسأبين حقيقته في كتابي هذا وأحقق القول فيه بحيث تزول الشبهة التي خبط أرباب علم البيان من أجلها وقالوا أقوالا لا تعرب عن فائدة‏.‏

والذي عندي فيه أنه إذا رجعنا إلى الأسماء واشتقاقها وجدنا هذا الاسم مناسبا لمسماه وهو في أصل اللغة مأخوذ من أطنب في الشيء إذا بالغ فيه ويقال‏:‏ أطنبت الريح إذا اشتدت في هبوبها وأطنب السير إذا اشتد فيه وعلى هذا فإن حملناه على مقتضى مسماه كان معناه المبالغة في إيراد المعاني وهذا لا يختص بنوع واحد من أنواع علم البيان وإنما يوجد في جميعها إذ ما من نوع منها إلا ويمكن المبالغة فيه وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن يفرد هذا النوع من والذي يحد به أن يقال‏:‏ هو زيادة اللفظ على المعنى لفائدة فهذا حده الذي يميزه عن التطويل إذ التطويل هو‏:‏ زيادة اللفظ عن المعنى لغير فائدة وأما التكرير فإنه‏:‏ دلالة على المعنى مرددا كقولك لمن تستدعيه‏:‏ أسرع أسرع فإن المعنى مردد واللفظ واحد وسيرد بيان ذلك مفصلا في بابه بعد

باب الإطناب بعضها بعضا وإذا كان التكرير هو إيراد المعنى مرددا فمنه ما يأتي لفائدة ومنه ما يأتي لغير فائدة فأما الذي يأتي لفائدة فإنه جزء من الإطناب وهو أخص منه فيقال حينئذ‏:‏ إن

كل تكرير يأتي لفائدة فهو إطناب وليس كل إطناب تكريرا يأتي لفائدة وأما الذي يأتي من

التكرير لغير فائدة فإنه جزء من التطويل وهو أخص منه فيقال حينئذ‏:‏ إن كل تكرير يأتي لغير

فائدة تطويل وليس كل تطويل يأتي لغير فائدة‏.‏

وكنت قدمت القول في باب الإيجاز بأن الإيجاز هو‏:‏ دلالة اللفظ على المعنى من غير زيادة

عليه‏.‏

وإذا تقررت هذه الحدود الثلاثة المشار إليها فإن مثال الإيجاز والإطناب والتطويل مثال مقصد

يسلك إليه في ثلاثة طرق فالإيجاز هو أقرب الطلاب الثلاثة إليه والإطناب والتطويل هما

الطريقان المتساويان في البعد إليه إلا أن طريق الإطناب تشتمل على منزه من المنازه لا يوجد في طريق التطويل وسيأتي بيان ذلك بضرب الأمثلة التي تسهل من معرفته‏.‏

والإطناب يوجد تارة في الجملة الواحدة من الكلام ويوجد تارة في الجمل المتعددة والذي

يوجد في الجمل المتعددة أبلغ لاتساع المجال في إيراده‏.‏

اقسام الاطناب

وعلى هذا فإنه بجملته ينقسم قسمين‏:‏

 القسم الأول الذي يوجد في الجملة الواحدة من الكلام

وهو يرد حقيقة ومجازا أما الحقيقة فمثل قولهم‏:‏ رأيته بعيني وقبضته بيدي ووطئته بقدمي

وذقته بفمي وكل هذا يظن الظان أنه زيادة لا حاجة إليها ويقول‏:‏ إن الرؤية لا تكون إلا

بالعين والقبض لا يكون إلا باليد والوطء لا يكون إلا بالقدم والذوق لا يكون إلا بالفم وليس

الأمر كذلك بل هذا يقال في كل شيء يعظم مناله ويعز الوصول إليه فيؤكد الأمر فيه على هذا

الوجه دلالة على نيله والحصول عليه كقول أبي عبادة البحتري‏:‏

تأمل من خلال السجف وانظر بعينك ما شربت ومن سقاني

تجد شمس الضحى تدنو بشمس إلي من الرحيق الخسرواني

ولما كان الحضور في هذا المجلس مما يعز وجوده وكان الساقي فيه على هذه الصفة من الحسن

قال‏:‏ انظر بعينك‏.‏

وعلى هذا ورد قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ذلكم قولكم بأفواهكم ‏"‏ فإن هذا القول لما كان فيه افتراء عظم الله

تعالى على قائله ألا ترى إلى قوله تعالى في قصة الإفك‏:‏ ‏"‏ إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ‏"‏ فصرح في هذه الآية بما أشرت إليه من تعظيم الأمر المقول‏.‏

وفي مساق الآية المشار إليها جاء قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ‏"‏ ألا ترى أن مساق الكلام أن الإنسان يقول لزوجته‏:‏ أنت علي كظهر أمي ويقول لمملوكه‏:‏ يا بني فضرب الله لذلك مثلا فقال‏:‏ كيف تكون الزوجة أما

وكيف يكون المملوك ابنا والجمع بين الزوجة والأمومة وبين العبودية والبنوة في حالة واحدة كالجمع بين القلبين في الجوف وهذا تعظيم لما قالوه وإنكار له ولما كان الكلام في حال الإنكار

والتعظيم أتى بذكر الجوف وإلا فقد علم أن القلب لا يكون إلا في الجوف والتمثيل يصح

بقوله‏:‏ ‏"‏ ما جعل الله لرجل من قلبي ‏"‏ وهو تام لكن في ذكر الجوف فائدة وهي ما أشرت إليها

وفيها أيضاً زيادة تصوير للمعنى المقصود لأنه إذا سمعه المخاطب به صور لنفسه جوفا يشتمل

على قلبين فكان ذلك أسرع إلى إنكاره‏.‏

وعليه ورد قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فخر عليهم السقف من فوقهم ‏"‏ فكما أن القلب لا يكون إلا في الجوف

فكذلك السقف لا يكون إلا من فوق وهذا مقام ترهيب وتخويف كما أن ذاك مقام إنكار

وتعظيم ألا ترى إلى هذه الآية بكمالها وهي قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله

بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ‏"‏ ولذكر

لفظة ‏"‏ فوقهم ‏"‏ فائدة لا توجد مع إسقاطها من هذا الكلام وأنت تحس هذا من نفسك فإنك

إذا تلوت هذه الآية يخيل إليك أن سقفا خر على أولئك من فوقهم وحصل في نفسك من الرعب

ما لا يحصل مع إسقاط تلك اللفظة، وفي القرآن الكريم من هذا النوع كثير كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت

الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة ‏"‏ وقوله ‏"‏ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ‏"‏ وكل هذه الآيات إنما أطنب فيها بالتأكيد لمعان اقتضتها فإن النفخ في الصور الذي تقوم به الأموات من القبور مهول عظيم دل على القدرة الباهرة وكذلك حمل الأرض والجبال فلما كانا بهذه الصفة قيل فيهما‏:‏ ‏"‏ نفخة واحدة ‏"‏ و ‏"‏ دكة واحدة ‏"‏ أي‏:‏ أن هذا الأمر المهول العظيم سهل يسير على الله تعالى يفعل ويمضي الأمر فيه بنفخة واحدة ودكة واحدة ولا يحتاج فيه إلى طول مدة ولا كلفة ولا مشقة فجيء بذكر الواحدة لتأكيد الإعلام بأن ذلك هين سهل على عظمه‏.‏

وهذه المواضع وأمثالها ترد في القرآن الكريم ويتوهم بعض الناس أنها ترد لغير فائدة اقتضتها

وليس الأمر كذلك فإن هذه الأسرار البلاغية لا يتنبه لها إلا العارفون بها وهكذا يرد ما يرد

منها في كلام العرب‏.‏ وههنا نكتة لا بد من الإشارة إليها وذاك أني نظرت في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ نفخة واحدة ‏"‏ و ‏"‏ دكة واحدة ‏"‏ وفي قوله تعالى ‏"‏ ومناة الثالثة الأخرى ‏"‏ فوجدت ذلك غير مقيس على ما تقدم وسأبينه ببيان شاف فأقول‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ومناة الثالثة الأخرى ‏"‏ إنما جيء به لتوازن الفقر التي نظمت السورة كلها عليها وهي‏:‏ ‏"‏ والنجم إذا هوى ‏"‏ ولو قيل ‏"‏ أفرأيتم اللات والعزى ومناة ‏"‏ ولم يقل الثالثة

الأخرى لكان الكلام عاريا عن الطلاوة والحسن وكذلك لو قيل‏:‏ ومناة الأخرى من غير أن يقال

الثالثة لأنه نقص في الفقرة الثانية عن الأولى وذاك قبيح وقد تقدم الكلام عليه في باب السجع

لكن التأكيد في هذه الآية جاء ضمنا لتوازن الفقر وتبعا وأما ‏"‏ نفخة واحدة ‏"‏ و ‏"‏ دكة واحدة ‏"‏

فإنما جيء بلفظ الواحدة فيهما وقد علم أن النفخة هي واحدة والدكة هي واحدة لمكان نظم

الكلام لأن السورة التي هي ‏"‏ الحاقة ‏"‏ جارية على هذا المنهاج في توازنها السجعي ولو قيل

نفخة من غير واحدة ثم قيل بعدها ‏"‏ فيومئذ وقعت الواقعة ‏"‏ لكان الكلام منثورا محتاجا إلى تمام

لكن التأكيد جاء فيهما ضمنا وتبعا وإذا تبين ذلك واتضح فاعلم أن الفرق بين هذه الآيات وبين

قوله تعالى ‏"‏ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ‏"‏ ظاهر وذاك أن نفخة هي واحدة ومناة هي

ثالثة‏.‏

وأما ما جاء منه على سبيل المجاز فقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ‏"‏ ففائدة ذكر الصدور ههنا أنه قد تعورف وعلم أن العمى على الحقيقة مكانه

البصر وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها واستعماله في القلب تشبيه ومثل فلما أريد

إثبات ما هو خلاف المتعارف من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار احتاج هذا

الأمر إلى زيادة تصوير وتعريف ليتقرر أن مكان العمي إنما هو القلوب لا الأبصار‏.‏

وهذا الموضع من علم البيان كثيرة محاسنه وافرة لطائفه والمجاز فيه أحسن من الحقيقة لمكان

زيادة التصوير في إثبات وصف الحقيقي للمجازي ونفيه عن الحقيقي‏.‏

  القسم الثاني المختص بالجمل

فإنه يشتمل على ضروب أربعة

أن يذكر الشيء فيؤتى فيه بمعاني متداخلة

إلا أن كل معنى يختص بخصيصة ليست للآخر

وذلك كقول أبي تمام‏:‏

قطعت إلى الزابيين هباته والتاث مأمول السحاب السبل

من منة مشهورة وصنيعة بكر وإحسان أغر محجل

فقوله‏:‏ ‏"‏ منة مشهورة وصنيعة بكر وإحسان أغر محجل ‏"‏ تداخلت معانيه إذ المنة والصنيعة

والإحسان متقارب بعضه من بعض وليس ذلك بتكرير لأنه لو اقتصر على قوله منة وصنيعة

وإحسان لجاز أن يكون تكريرا ولكنه وصف كل واحدة من هذه الثلاث بصفة أخرجتها عن

حكم التكرير فقال‏:‏ ‏"‏ منة مشهورة ‏"‏ فوصفها بالاشتهار لعظم شأنها و ‏"‏ صنيعة بكر ‏"‏ فوصفها

بالبكارة‏:‏ أي أنها لم يؤت بمثلها من قبل و ‏"‏ إحسان أغر محجل ‏"‏ فوصفه بالغرة والتحجيل‏:‏ أي هو ذو محاسن متعددة فلما وصف هذه المعاني المتداخلة التي تدل على شيء واحد بأوصاف

متباينة صار ذلك إطنابا ولم يكن تكريرا‏.‏

ولم أجد في ضروب الإطناب أحسن من هذا الموضع ولا ألطف وقد استعمله أبو تمام في شعره زكي سجاياه تضيف ضيوفه ويرجى مرجيه ويسأل سائله

فإن غرضه من هذا القول إنما هو ذكر الممدوح بالكرم وكثرة العطاء إلا أنه وصفه بصفات

متعددة فجعل ضيوفه تضيف وراجيه يرجى وسائله يسأل وليس هذا تكريرا لأنه يلزم من

كون ضيوفه تضيف أن يكون راجيه مرجوا ولا أن يكون سائله مسؤلا لأن ضيفه يستصحب

ضيفا طمعا في كلام مضيفه وسائله يسأل‏:‏ أي أنه يعطي السائل عطاء كثيراً يصير به معطيا

وراجيه يرجى‏:‏ أي أنه إذا تعلق به رجاء راج فقد أيقن بالفلاح والنجاح فهو حقيق بأن يرجى

لمكان رجائه إياه وهذا أبلغ الأوصاف الثلاثة‏.‏

  الضرب الثاني يسمى النفي والإثبات

وهو أن يذكر الشيء على سبيل النفي ثم يذكر على سبيل الإثبات أو بالعكس ولا بد أن

يكون في أحدهما زيادة في الآخر وإلا كان تكريرا والغرض به تأكيد المعنى المقصود‏.‏

فمما جاء منه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم

وأنفسهم والله عليم بالمتقين‏.‏ إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم واعلم أن لهذا الضرب من الإطناب فائدة كبيرة وهو من أوكد وجوهه ألا ترى أنه قال‏:‏ ‏"‏ لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ‏"‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏ إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ‏"‏ والمعنى في ذلك سواء إلا أنه في الثانية قوله‏:‏ ‏"‏ وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ‏"‏ ولولا هذه الزيادة لكان حكم هاتين الآيتين حكم التكرير وهذا الموضع ينبغي أن يتأمل وينعم النظر فيه‏.‏

وعليه ورد قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ألم‏.‏ غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون‏.‏

في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون‏.‏ بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏.‏ يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ‏"‏ فقوله ‏"‏ يعلمون ‏"‏ بعد قوله ‏"‏ لا يعلمون ‏"‏ من الباب الذي نحن بصدد ذكره إلا ترى أنه نفى العلم عن الناس بما خفي عنهم من تحقيق وعده ثم أثبت لهم العلم بظاهر الحياة الدنيا فكأنهم علموا وما علموا إذ العلم بظاهر الأمور ليس بعلم وإنما العلم هو ما كان بالباطن من الأمور‏.‏

  الضرب الثالث لا يحتاج إلى زيادة

ثم يضرب له مثال من التشبيه كقول أبي عبادة البحتري‏:‏

ذات حسن لو استزادت من الحس - - ن إليه لما أصابت مزيدا

فهي كالشمس بهجة والقضيب الل - - دن قدا والريم طرفا وجيدا

ألا ترى أن الأول كاف في بلوغ الغاية في الحسن لأنه لما قال‏:‏ ‏"‏ لو استزدت لما أصابت مزيدا‏"‏‏.‏

دخل تحته كل شيء من الأشياء الحسنة إلا أن للتشبيه مزية أخرى تفيد السامع تصويرا وتخييلا

لا يحصل له من الأول وهذا الضرب من أحسن ما يجيء في باب الإطناب‏.‏

وكذلك ورد قوله‏:‏

تردد في خلقي سودد سماحا مرجى وبأسا مهيبا

فكالسيف إن جئته صارخا وكالبحر إن جئته مستثيبا

فالبيت الثاني يدل على معنى الأول لأن البحر والسيف للبأس المهيب إلا أن في الثاني زيادة

التشبيه التي تفيد تخيلا وتصويرا‏.‏